Friday, June 16, 2017

كلمات في القمة حول الافتقار إلى الله (14).... د. سُمية عيد الزعبوط

كلمات في القمة حول الافتقار إلى الله (14)
د. سُمية عيد الزعبوط

أن تفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يعني أنك لا تطمع بالدنيا ولا يتعلق قلبك في الحياة الدنيا، من هنا كنْ مفتقراً إلى الله وحده لا شريك له، ولا تكن كالذين يفتقرون إلى المال، أو كالذين يفتقرون إلى الجاه، أو كالذين يفتقرون إلى الأهل والأصحاب ، فهؤلاء يضحون بدينهم من أجل مالٍ أو صاحب في كثير من الأحيان.
بناء على ذلك قال تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }،الآية رقم 25 من سورة العنكبوت،
وفي موضعٍ آخر قال تعالى: { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ }، الآية رقم 109 من سورة هود.
وحتى تفتقر إلى الله وحده لا شريك له، لا بدّ أن يغفل قلبك عن قدر الحياة الدنيا، وأن لا يلتفت إليها، فالمؤمن المفتقر إلى الله لا يطلب الدنيا ولا يُنافس في عزها ولا يجزع من ذلها، ولا يندم على ما فاته منها، ولا يفرح بما أتاه الله منها فرح الغرور، ولا ينسب الكمال لنفسه ، كالذي قال: " إنما أوتيته على علم عندي"، وكالذي قال: " هذا لي، وكالذي قال: أنا أكثرُ منك مالاً وأعز نفراً، إذ إن هذه الألفاظ صدرت عن أناس وصلوا لدرجة الكفر بسبب هذا الفرح الذي يصاحبه الغرور، فأنت يا أخي لك أن تفرح بفضل الله ورحمته وتفرح بنعمة الإسلام، هذه النعمة التي هي سبب استغنائك عن الخلق وسبب افتقارك إلى الله.
قال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }، الآية رقم 20 من سورة الحديد.  
فالمؤمن أخي الفاضل يعلم أن ما كان به من خير هو من الله ، كذلك يعلم أن سعيه إلى الطاعة والإيمان والرجاء والتوكل والافتقار ، وسعيه إلى الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة هو بتوفيقٍ من الله ، إذ لم يوفق إلى كل ذلك بنفسه ، وإنما هو بتوفيق وهداية من الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو من هيّأ له أسباب الطاعات ورفعه إلى المناصب العليا، فلا يتعالى على الناس بعلمه ولا بعمله ولا بزهده، فمن يرى نفسه في منزلة فوق الناس بعلمه أو بعمله ويطلب مدح الناس على ذلك ، فهو بذلك يضع نفسه في النار بنفسه.
أما الذي يشهد أن هذا ليس من نفسه بل هو من توفيق الله له، فإنه لن يرى لنفسه فضلاً على أحد ، من هنا فإنه لن يمن على الناس بعلمه أو بعمله، فبذلك يتحقق الافتقار إلى الله وحده لا شريك له.
ومن الافتقار إلى الله، أن يشهد الإنسان نفسه أنه بغير قدرة وبلا قوة إلاً بالله سبحانه وتعالى ، وأنه مفتقر إلى أن يكون قريباً من الله في عباداته وأعماله كافة، وبذلك يصل إلى أن الأسباب هي مجرد أسباب يسرها الله سبحانه وتعالى، وفي هذا قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " لن ينجي أحد منكم عمله، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله ؟ قال: ولا إياي، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا، وفي رواية أخرى بهذا الإسناد غير أنه قال: " برحمة منه وفضل"، ولم يُذكر : ولكن سددوا .
فإذا اكتمل له ذلك، فإنه يكون قد حقق الافتقار إلى الله تعالى، فاستغنى به سبحانه وتعالى، ويكون بذلك غني النفس وغني القلب بالله، وهنا قال رسول الله صل الله عليه وسلم": " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" وعن أبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال أفترى قلة المال هو الفقر؟ قلت : نعم يا رسول الله، قال: " إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" .
وإني لأرى حال كثير من أهل الدنيا بما يُظهرون من دين وبما يعملون من عملٍ صالح ليس لأجل الدين ، فهم يروْن الدنيا كبيرة وأسبابها عظيمة ، وهناك من يفتقر إلى الله ويقترب منه ، إذ من اقترب من الله أغناه الله، فهو بذلك يستغني بالله، فيستغني بحبه عن حب من سواه، وبالخوف منه عن خوف من سواه، وبالرغبة فيما عنده عن الرغبة فيمن سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، فهو بذلك يستغني بالله عن كل من دونه، فهو لا يرى حركة أية ذرة في الكون إلاّ بأمر الله عز وعلا، فالافتقار إلى لقاء الله تعالى، فيه اللذة، وأية لذة ، إنها هي اللذة التي تدفع المؤمن إلى السير قدماً مهما كانت العقبات.

والله أعلم.

No comments:

Post a Comment