Thursday, November 23, 2017

وقائع تسمو بمسيرة الخلفاء الراشدين .... الدكتورة سُمية عيد الزعبوط

وقائع تسمو بمسيرة الخلفاء الراشدين

روى عمرو بن العاص والي مصر في ذلك العهد، قال: دخل عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وأبو سروعة ، وهما منكسران ، فقالا: أقم علينا  حد الله ، فإنا قد أصبنا البارحة شراباً فسكرنا.
قال عمرو بن العاص : ولما طردتهما، قال عبد الرحمن بن عمر : إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه.
فحضرني رأيٌ وعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد، غضب علي عمر في ذلك ، وعزلني ، وفيما أنا كذلك،  وإذ بـ عبد الله بن عمر يدخل فقمت إليه ، ورحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي، فأبى عليَّ وقال: أبي نهاني أن أدخل عليك إلاّ ألا أجد من ذلك بداً ، إن أخي لا يُحلَق على رؤوس الناس، فأما الضرب فاصنع ما بدا لك.
قال عمرو بن العاص، فأخرجتهما إلى صحن الدار ، فضربتهما الحد، ودخل عمر بأخيه إلى بيت من الدار فحلق رأسه ورأس أبي سروعة، فو الله ما كتبت إلى عمر بشيء مما كان.
وفيما بعد جاءني كتاب من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يقول فيه: " بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاص: " عجبت لك يا بن العاص ولجرأتك عليّ وخلاف عهدي، فما أراني عازلك فمسئ عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يُخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت : هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع".
قال عمرو بن العاص: فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت ابن عمر كتاب أبيه، وكتبت إلى عمر كتاباً أعتذر فيه، وأخبرته أني ضربته في صحن داري ، وبالله الذي يُحلف بأعظم منه إني أقيم الحدود في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر .
قيل: فقدم عبد الرحمن على أبيه فدخل عليه، وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من مركبه.
 قال عمر : يا عبد الرحمن فعلت كذا؟ فكلمه عبد الرحمن بن عوف قائلاً: يا أمير المؤمنين قد أُقيم عليه الحد مرة، إلاّ أن عمر لم يلتفت له.
قال عبد الرحمن بن عمر يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فضربه عمر وحبسه، فلبث شهراً صحيحاً ، ثم أصابه قدره فمات ، فتحسب الناس أنه مات من الجلد، ولم يمت منه.
استناداً على ما تقدم، ما من قارئ لسير الخلفاء الراشدين ، إلاّ وعرف أن العدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان هي صفات مكينة تتجه وجهة واحدة ولها مسيرة واحدة وهي مسيرة العدل ، وإن تشعبت مصادرها ، فقد ورث العدل في القضاء من آبائه وقبيلته ( بني عدي) ، الذين أجادوا فن التحكيم في الجاهلية، وورث العد من والده وجده (نفيل) الذي يخجل من الميل إلى القوي لأن في ذلك جبن، ومن الجور على الضعيف لأن في ذلك عوج يُذهب بالنخوة والشهامة، كما عرف العدل من تعاليم الدين وعقيدة الإسلام ، ولربما كان في تعدد مصادر عدل عمر بن الخطاب العصمة والقوة والاتفاق ، وإن تفرقت القضايا وتنوعت، فالحكم واضح كوضوح الشمس هو العدل،  إذ سوى عمر بين ابنه وسائر الرعية،فبلغ بذلك مبلغ البطولة النادرة ، وهذا يكفي في تعظيم قدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
 فمن المألوف في الطبائع أن الرجل الذي يبدو قاسياً في حكمه ؛ فإن ذلك يعود لاعتصامه بالواجب ، وهذا ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما من رواية حول مسيرته ، إلاّ كانت باسم الواجب أو في سبيل الواجب، فالواجب قائماً في مسيرته الزكية ليسوغها........

عن عباس محمود العقاد/ كتاب العبقريات.

No comments:

Post a Comment